العليمي: رجل الدولة الذي يمشي على حبل بين ضفتين وهاوية!


فتحي أبو النصر :

(عن الرئيس لم يُعطَ فرصة أن يكون رئيسا) (رشاد العليمي وتعز: رئاسة على الحبل بين خذلان الداخل وغدر الحلفاء)

في هذا المشهد اليمني الملوث بالبؤس والدم والخيبة، يظهر الدكتور رشاد العليمي وكأنه بهلوان سياسي يتمايل على حبل مشدود بين ضفتين لا تريدان له النجاة: ضفة عبث التحالف وضفة جحيم المليشيات، بينما تحته هاوية تتسع كل يوم لتبتلع ما تبقى من الدولة والكرامة والسيادة.

بمعنى أدق فإن الدكتور العليمي، رجل دولة من طراز لم تعد تلد السياسة اليمنية منه إلا نادرا، وجد نفسه رئيسا لمجلس بلا قيادة حقيقية، وفوق مؤسسات بلا دولة، وبين حلفاء يتصارعون على الغنيمة لا على المبدأ.

بل لا أحد يعرف ما إذا كان رشاد رئيسا فعليا أم مجرد ديكور دبلوماسي يتم تحريكه من أبوظبي أو يُعاد شحنه من الرياض!

في الحقيقة فإن السعودية التي “منحت” العليمي الرئاسة، لم تمنحه سوى الصلاحيات على الورق، وتركت له شلة من المتشاكسين المتنافرين الذين لا يجتمعون على مائدة إلا ويخرجون منها بخناجر مغروسة في ظهور بعضهم.

و لقد منحوه مجلسا فيه طارق الذي يحلم بكرسي عمه، والزبيدي الذي يعتقد أن الدولة تنتهي حيث تبدأ حدود الضالع، والعرادة الذي لا يرى أبعد من آبار مأرب. وو

فكيف يُطلب من العليمي قيادة مشروع وطني في ظل تركيبة أقرب إلى فرقة مهرجين في سيرك مليء بالأسود الهائجة؟!

بمعنى أدق فإن من يقرأ ملامح السياسة السعودية في اليمن، لا يجد صعوبة في فهم السبب وراء حالة العقم السياسي التي وصل إليها العليمي.

فالسعودية، كما وصفها أحدهم، تحب الحلفاء من ورق، ترفعهم ساعة الحاجة، وتُسقطهم متى شعرت بأنهم قد يستخدمون عقولهم. ولقد فعلتها مع هادي من قبل، وفعلتها مع سعد الحريري في لبنان، وتفعلها اليوم مع رشاد العليمي.

و يا لها من مفارقة مريرة: السعودية التي حرصت على تصنيف حزب الله إرهابيا، ترفض حتى اليوم أن تصنف الح..وثيين كذلك، رغم أنهم يلعنونها ليل نهار ويقصفون منشآتها كلما سنحت لهم الفرصة. بينما تضغط على الشرعية أن تلتزم بالهدنة، في حين أن الحو..ثي يلتهم الأرض ويلبس الهدنة كفنا.

في الحقيقة، لم يغدر العليمي بالوطن، ولم يبع سيادته، ولم يتفاوض سرا مع الح..وثي، ولم يهادن الطغيان، لكنه لم يُعطَ فرصة ليقود، بل تم رميه في بحرٍ من التناقضات، وطُلب منه أن يسبح وهو مكبل اليدين.!

فالرجل الذي قال “لا” لصنعاء يوم قال الجميع “نعم”، هو ذاته من تآمر عليه بعض أبناء حزبه، وبعض أبناء محافظته، وأكثر من تواطأ ضده هم من يفترض أنهم حلفاؤه في “الشرعية”.

تُشن عليه حملات منظمة من مطابخ أبناء تعز الذين باعوا صوتهم لخصومه في السوق السوداء، حتى صار العليمي هدفا سهلا في زمن الرماة من الخلف!

لكن تعز لم تنكره، ولم تبعه.

فقط تعبت من صمته، وتخشى أن يتحول من رجل الدولة إلى ظل الرجل، من رشاد العليمي إلى رئيس بلا رشاد.

فهل نحتاج لتذكير أنفسنا أن “مجلس القيادة الرئاسي” هو اسم فاخر لمجموعة من الولاءات المتعارضة؟ العليمي يبدو فيه أشبه بمدير مدرسة يترأس طلابا مشاغبين، كلٌّ منهم لديه ظهر خارجي: طارق من أبوظبي، الزبيدي من الضالع، العرادة من مأرب والغاز، والبقية الله أعلم من أين جاءوا.

وطبعا كلهم يعملون بتوجيهات غير متقاطعة، لأن الهدف ليس النصر، بل استمرار اللعبة، وحتى العليمي إن حاول أن يقود، وجد نفسه محاصرا بخيوط التحكم الخليجي، ولا سيما السعودي-الإماراتي، اللذين يتقنان فن التجميد لا البناء، وتعطيل المعارك لا خوضها.

ومع كل ذلك، لا يزال رشاد العليمي نقطة ضوء تم إطفاؤها عمدا. فالرجل لا يملك جيشا، ولا مالا، ولا إعلاما، ولا دعما شعبيا كاسحا، لكنه يملك ما لا يملكه كثيرون: ضمير رجل دولة وحنكة سياسي يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، وإن طالت فترة الصمت أكثر من اللازم.

صحيح أخطأ العليمي في ترك الأمور تفلت من بين يديه، في الصمت على فساد الحكومة، في التسامح مع العبث، في القبول بأن يتحول إلى واجهة “شرعية” تُساق كما يُساق البعير، لكنه لم يسرق، لم يخن، ولم يصعد على جثث الفقراء، ولم يتاجر بدماء الشهداء.

فيا من ترفع رأسك بين الطاعنين والطاعنين بك، لقد رممناك حين كسرتك السياسة، ورفعناك حين خذلك الأقربون. و لم نطلب منك المستحيل، فقط أردناك أن تكون رئيسا… لا لوحة شرف في صالون التحالف.

اصطف مع تعز، أو على الأقل لا تخذلها، ولا تسمح لمن باعوا اليمن أن يشتروا صمتك. وإذا لم تستطع أن تقود، فاعتذر بشرف، ولا تكن مجرد طبعة جديدة من الرئاسة القديمة.

ولأن اليمن لا تحتاج اليوم رئيسا من ورق، بل رجلا يملك القرار ولو كان وحيدا.

ويا من يسير على الحبل: إما أن تصل الضفة، أو تسقط بكرامة.

لكن لا تكن الحبل نفسه.

أي أن العليمي… الرئيس الذي لا يحكم، بل يُحاكم ظلما.

فمن تعز، المدينة التي لا تنحني، خرج رجل الدولة المتأني، الدكتور رشاد العليمي، بخطوات هادئة، وملامح صلبة، وعينين تتأمل وجع البلاد كمن يقرأ كتابا مفتوحا على كل خيباتنا.

لكنه اليوم، لا يُنظر إليه كرئيس، بل كقربان يُذبح على مذبح الخيانة الممتدة من صنعاء إلى عدن، ومن مأرب إلى الرياض، إلى المخا ، مرورا بأبناء جلدته الذين باعوا صوتهم لمن يدفع، لا لمن يستحق.

طبعا رشاد العليمي ليس ملاكا، لكنه ليس قاتلا، ولا فاسدا، ولا مرتزقا على حساب وطنه.

بل لم يسرق قوت الناس، لم يتواطأ مع الحظ.وثي، ولم يضعف أمام صفقة، ولم يتلون بلون المرحلة، كما فعل كثيرون.

كل ذنبه أنه من تعز، المدينة التي تُعاقب مرتين: مرة من خصومها، ومرة من أبنائها الذين باعوا قرارهم في سوق الوكالة الرخيصة.

فيا لسخرية القدر!

رئيس شرعي، عينه التحالف، لكنه لم يمكنه، بل سلمه مجلسا بمواصفات الخراب، ونوابا كلٌ منهم يحمل مشروعه الخاص، وسكينا مغروسة في ظهر الدولة.

نعم..مجلس قيادة بلا قيادة، بلا قرار، بلا رؤية، تُحركه مصالح أبو ظبي والرياض، وتجره المليشيات من أذنه، فيما الرئاسة صارت منصة للشتائم والافتراء.

فأي حظ عاثر هذا الذي يجعل رئيسا نزيها يُلاحق بالشائعات، وتُحاصره مطابخ الدناءة من الشمال والجنوب، ومن داخل بيته التعزي؟

وكأن الوطن قرر أن يعاقب من لم يبع ولم ينهب ولم يخن، فقط لأنه لا يصرخ ولا يهدد ولا يلوح بالبنادق.

والشاهد أن رشاد العليمي، ذلك الرجل الذي لا يمسك العصا من المنتصف، بل يحاول أن يمنعها من أن تنكسر بين المنتصفين.

يسير على الحافة، ولا يسقط، يحاور الجميع، ويحتمل الجميع، بينما تنهال عليه السكاكين من كل اتجاه.

لم يطلب من التحالف سوى دعم حقيقي للدولة، لا للتوازنات، ولم يسعى للمال، بل سعى للرواتب، للناس، للمواطنين، لأولئك الذين لا يملكون إلا صبرهم وجوعهم.

لكن السعودية، التي صنعت “المجلس”، تركت العليمي وحده على الرصيف، بلا وديعة، بلا غطاء سياسي، بلا سند، كأنها أرادته مجرد واجهة مؤقتة ثم قررت أن تطويه.

أما الداخل، فحدث ولا حرج.

طارق عفاش يحلم بالعرش، والزبيدي يخطط للانفصال، والعرادة يحكم على مأرب كإقطاعية خاصة، والنواب منقسمون بين ولاءات إقليمية وحسابات ضيقة.

وكل هؤلاء، بدل أن يقفوا خلف رئيسهم، وقفوا على جثته السياسية، يوزعون حصص الغنيمة كما لو أن اليمن مجرد تركة في نزاع عائلي.

لكن، رغم هذا كله، يظل العليمي واقفا.

لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأصدق.

لا لأنه يملك الدبابات، بل لأنه يملك ضميرا لا يعرف الخيانة.

فيا أبناء تعز… لا تكرروا خطأكم مع الشهيد النعمان.

ولا تنسوا أن من بينكم رجل دولة يُذبح الآن بأيديكم.

لا تكونوا أعوان خصومه، فقط لأنه لا يوزع الغنائم.

ولذلك، أقول:

من يخسر رشاد العليمي، يخسر ما تبقى من صورة الدولة.

فلا تصدقوا الضجيج… فالرجل لا يقاتل من أجل كرسي، بل من أجل ألا يسقط اليمن في الهاوية الأخيرة.

هو ليس نبيا، لكنه لم يكن ذئبا.

وما أكثر الذئاب في هذا الوطن الذي لا يكف عن أكل أنبيائه.!

وبصريح العبارة رشاد العليمي… ذلك الذي لم يبع دمه

في زمن صار فيه الصمت خيانة، حمل صليبه ومضى، بين حلفاء ينهشونه، وخصوم يشوهونه، و”اوغاد” يتاجرون بإسمه.

هو من تعز التي لُعنت بجغرافيتها، وببراءتها، وبحنينها للدولة.

لكن تعز، يا رشاد، لم تنكرك، بل فقط تعبت من الصبر، وتعبت من حلمك الطويل.

تعز التي استقبلتك بحب، لا تطلب منك المستحيل، بل تطلب أن ترفع رأسها بك لا أن تُطأطئه باسمك.

وما اريد قوله إن العليمي لم يكن يوما ميليشيا، ولا صاحب ثأر، ولا تاجر سياسة…

كان وما يزال رجلا يمشي بين الألغام، ويُراكم الهدوء في وجه العاصفة.

لم يمتدحه الإعلام، لأنه لم يدفع.ظ

ولم يخشَ الشتائم، لأنه يعرف نفسه.

فيا من يحكم ولا يحكم..

ويا من تركوه في منتصف الجسر

ويا من تحمل عجز الكل

أنت لا تحتاج أن تصرخ لتكون منصفا،

يكفي أنك لم تلطخ يديك بدم وطنك.

لذلك دمت شامخا يا ابن تعز…

…يا من يحكم ولا يُمكَّن، ويا من خُذل من فوق وخُذل من تحت، لا نطالبك بالعصا السحرية، ولا بأن تصنع المعجزة من خراب،ةلكننا نطالبك بأن تظل واقفا… لا لأجل الكرسي، بل لأجل من تبقى من فكرة “الدولة”.

وإن كانوا قد صنعوا من حولك جدرانا من المؤامرات،

فاصنع من صبرك بابا،

وإن عز عليك النصير، فتذكر أن في هذا البلد المكسور… ما زال البعض يؤمن بك.

ولا تلتفت كثيرا للذين يشتمونك بألسنةٍ باعوها، ولا لمن يقايضون الوطن بمكاسبهم،

فهم زائلون…

ويبقى من حاول أن يُنقذ المركب ولو بأحلام مثقوبة.

ويارشاد العليمي… لا نريدك نبيا،

لكننا نريدك آخر الرجال الذين لم يبيعوا الكفن وهم يجهّزون الجنازة.

بل ليس لي مصلحة منك، لكنني رأيت خصومك يبتسمون،

فأدركت أنك على الطريق الصحيح.

ويا رشاد، هم لم يرفعوك لأنك الأقوى، بل لأنك الأهدأ…

ولم يهاجموك لأنك خائن، بل لأنك الوحيد الذي لم يخن.

وفيما تمشي فوق خرائط مشروخة، تفاوض الوقت لا الأعداء،وتصنع التوازن في وطن فقد توازنه.

تذكر انك من تعز جئت، محافظة الجراح والكرامة،

فلا تتركها تنهار… ولا تنسَ من رمم صورتك حين كُسرت.

فاصمت إن شئت…لكن لا تصمت عن الحق،وولا تترك الفساد يُلبس وجهك.

وإذ ما زال فيك أمل لدولة،ووفي صبرك بقايا رجال،

فإما أن تنهض بهم… أو تنهض وحدك.

لكن لا تسقط.

تعز لا تغفر السقوط.

وكما قال البردوني عن أبناء تعز:

“جنوبيون في صنعاء… شماليون في عدن”

غرباء في كل الجهات.

ليس لهم ظهر إلا الوطن،ولا حصة في الغنيمة،

إلا إذا قاتلوا وماتوا.

وهم الدولة حين تغيب، والضمير حين يُباع، والنار حين تُستباح.

قدرهم أن يحملوا الخراب على أكتافهم، ثم يُسألوا: لماذا لم تطفئوا الحريق؟

لكن لا دولة تقوم…

إلا إذا نهضت من تعز.!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى